في تجاويف الغيابِ
في ضيق الأمكنةِ
كما لو أنَّ الليلَ
اندلقَ فجأةً
كما لو أنِّي لم أرَكِ
منذ طفولة.
قُبالةَ توحُّدي
يحتشدُ غيابُكِ
يدقني عُنوةً
والغريب حين تجيئينَ
ينفردُ حضورُكِ بي
رويداً.. رويداً
يُحيلني كومةً من الإرباك.
مدونة الشاعر الليبي مفتاح ميلود mm_milod@yahoo.com
كانوا هنا
يفتشون عن بؤرة رطبة..
عن رشفة لم يطلْها الملح..
عن أغنية تصمد فى وجه الريح ..
من بعدك..
لاكني الصمت طويلاً..
وأندلق الليل فى الحواس ..
من بوسعه الآن ..
أن يكنس روث القبيلة..
عن عتبات البيوت.
يعيد لعرائس الصيف..
قمرها اللعوب..
من بمقدوره..
أن يقهر سطوة الأحجية..
يعيد لسواقي أنوثتها..
نم..نم طويلاً على قدر الوجع
لا ضوء يلوح الليلة.
لاشئ يقال الليلة.
المسافة بيننا....
حواس أعماه الملح .
آلق تبدد في التعب .
مضى وقت طويل ....
لم أراك فيه .
لم أرى درويشا ...
يمد لسانه للريح .
علها تضحك الريح .
وطئتنا الظنون..
وما عاد في الجبة .
ما يصلح للذهول ...
عد من حيث جئت ..
أيها المسكون بالغياب ..
الممسوس بسفر الأولين..
ما من قلب يحتمل خطاياك ..
ما من ليل يتسع لك .
بقلم الشاعر الليبي: مفتاح العماري
( في جوف الغيمة القاتمة
بذرة قمر
تُزهر بعيداَ
عن شرفات الشتاء )
أنفاس: عنوان لإشارة أخرى في خارطة الشعر الليبي الأكثر جِدّة وتنوّعاً .. يرتفع طوقها البهيّ من ذرى الجبل الأخضر ليعبر عن أصالة شعرية يتقدمها طموح المغامرة والتفرد. فها هو ذا الشاعر الفتيّ :مفتاح ميلود. الذي يعد من بين الأصوات الشعرية الأبرز في جيله , ينجز بهدوء أولى بواكير شعره, مقترحاً لنصّه تشكيلات لغوية من خامات نثرية خالصة تلامس بخفة ونعومة جوهر العلاقة بين شعرية النثر والعلم على نحو يتعذر فيه العثور على أيّة إيقاعات من سلالة القافية . غير أننا نقف بإجلال إزاء ذلك النغم المندس الذي يستمد رنيمه السحريّ من روح الكائنات الكامنة داخل نسيج من الكلمات الحارة والمعاني المطروحة في الطريق , فيما تستسلم عناصر الطبيعة ومخلوقاتها لآلة المخيلة الجامحة التي تضرم النار في حقول التوق , وفي الآن عينه تضيف حواس مبتكرة إلى مناطق القصيدة , حواس مستنفرة لإيقاظ الجوامد واكتشاف أسماء وأشياء غاية في البداهة .. وكأن هذا الشاعر الشابّ وهو يكتب قصيدته يرسم رقىً من رموز وعلامات وألوان لكي يختزل متاهة الكنز الضائع بخطى الحدس الشعري التي كما يبدو تحاول أن تكون واثقة وهي تتقدم برسوخ متمهل لا تعوزه حيلة اقتفاء أشد المفردات ضراوة لترويض وحشية النثر داخل عائلة الشعر.
من هنا كان لابد أن يرضخ ثقل العالم محمولاً بخفة أنفاس الشعر على أجنحة من سلالة النثر . ولعل هذه العرفانية المضمرة بإعجاز الدلالات وبلاغة الصورة النسيجية المتشابكة كانت تتحصن بصوفية الشعر للحلول في الموجودات وتأنيث صلابة الخارج وأنسنة البرّي بغية الوصول إلى تلك القرابة الروحية في أعلى درجاتها تجلياً ومعرفة حين تتسع بضع كلمات لإيواء الجمال المقدس. وأيضاً لتؤكد بثقة عالية استمرارية التجديد والتمرد الذي تشي به مغامرة قصيدة النثر في التجربة الشعرية الليبية المعاصرة.
عن كتاب : عتبة لنثر العالم
تكملُ النهاراتُ
جولاتِها الخاسرةَ
وفى مساحاتٍ ..
آهلة بعينيك ..
يتقصدنى ليل نهم ..
ليلٌ لا يعرف أحداً سواي
طالما خبأتُكِ ..
عن مناخاتي .. عن هواجسي
عن مسالك الوجع في القلبِ
مِراراً .. خبأتُكِ عن بقاياي ..
هاهو الحزن .. مهيأٌ لك الآن
فمن أين ستجئين ..
وأي قصيدةٍ مجنونة ..
تلك التي .. ستجتاحني
تذرو ما في الصدرِِ من رماد …
يقايضون المطرَ بما تيبَّسَ من خبزٍ
يحيكون من جلد الشيخوخة
ثياباً تليق بالتسول
من أين نجيء للأرصفة
بنظارة العشبِ
الآفاق الشاحبة
أنهكتها سنواتُ الترقب
أيُّ خطواتٍ بإمكانها
أن تعبِّيءَ كلَّ هذه الدروبِ
أيُّ شتاءٍ قديمٍ
يعير اللياليَ الأربعين غيومَه
تكدسي يا مواسمُ
ما من قُبَّرة صيفٍ تَجلب الحصادَ
ما من وجهة تتبنى دفَّةَ الريح.
أوصاني قبل أن يغادرَ
أن أُديرَ دَفَّةَ الليلِ
أوقدَ ناراً وأغني
أوصاني أن أشربَ من البئر
كثيراً ما كان يخلو للبئر
كان يصفر للريح .. يصادق العشبَ
وكان يعشق الضوءَ
متى تُراكَ تعود لوصاياك
تَهَبُ الخبزَ لدراويش المقامِ
وسلالَ الفاكهةِ للأمهاتِ
عُدْ..
فقد شَحَّ الزيتُ في المصابيحِ
وصِرْنا نخافُ صمتَ الأشياءِ.
غبار يتطاير في وجه الصبح..
لهاث يكسو الدروب المتربة..
شمس تعبر الحقول في انحناء.
***
على أشجار الرصيف..
ثمة عصافير تجترّ الفضاء..
ترقب المارّة.
***
الغيمة تلك..
تناست هطولها..
تبتعد الآن..
وقد نامت من التعب.
***
شيءٌ ما اعترى الوقت ...
شيءٌ ما قد حدث..
أضنه شيئاً يغيب الآن.
***
تعب يقتضي..
أن أرشق قامتي..
في المدى مسافات ..
تجوس هذا المهمل من بقاياي.
تذّمرْ .. تضوَّرْ
ولا تُخبِرْ أحداً
ابتلعْ صمتَك المُرَّ ونَمْ .
هذا زمنٌ لا يُؤتَمَن فيه الليلُ
وقد لا تُمطر فيه السماءُ
كن وحيداً.. كن على سفرٍ
تكوَّرْ على جُرحكَ
تمادى إن شئتَ في العِواء ..
أنت لستَ من هنا
أنت الغريبُ الخائفُ
حفيدُ البردِ والريحِ
بلدتُك البعيدةُ طمرتْها الخطايا
والدروبُ التي تعرفُ
صارت عُرضةً للوشاية
كن وحيداً ..
كن على سفر .